سنوات طوال وجد فيها روبنسون كروزو نفسه في جزيرة ظن أنها بعيدة عن كل حياة إنسانية، ولمّا مل المقام بها صنع قاربا ليعود إلى أوروبا، ليكتشف بعد شهور أنه أقامه بعيدا ولا قدرة له على دفعه إلى الساحل.
“جهودا بلا جدوى” كانت هذه المحاولة، وفق الأديب والناقد عبد الفتاح كيليطو، الذي عقّب في مداخلة له على هذه المسألة بقول: “أنْ يصنع الإنسان قاربا يكتشف في النهاية أنه لن يستطيع استعماله، وهو يصنعه يعرف أنه سيجد صعوبة في تحريكه، لكنه قال لنفسه لنصنعه ونرى فيما بعد، لكل منا أن يرى في ذلك شيئا شخصيا أو شيئا ثقافيا”.
ثم تساءل: “ما القارب الذي ظل بالنسبة لي بعيدا عن الساحل؟”.
خلال مشاركة له في تظاهرة “الآداب المرتحلة” التي تلغي الحواجز بين الكتّاب وقرائهم، تحدث كيليطو في فاس عن القراءات العربية لروبنسون كروزو، أو بالأحرى قراءته؛ لأن النص الأدبي يُقرَأ “من كلماته، لكن أيضا انطلاقا من نصوص أخرى من اللغة نفسها أو لغات أخرى”.
وفي تفاعل مع شعار “من ثقافة إلى أخرى”، لم يرَ كيليطو أحسن من رواية روبنسون كروزو الذي كان في جزيرة غريبة عنه “إنسانا عاديا”، وكان آخَرُه “المتوحش آكل لحم البشر”.
هذا النص الذي قرأه المتدخل صبيا، وعاد إليه بعد ذلك “انطلاقا من واقع وثقافة”، وجد قراءته الجديدة تفكر في نص “حي بن يقظان”، في صيغته النهائية مع ابن طفيل.
وتساءل كيليطو: “هل تأثر دانييل ديفو بِحَيّ؟”، وزاد: “اشتغل كثير من الباحثين على هذا دون جدوى، صنعوا القارب دون جدوى، دون إيصاله إلى يقين”.
وتوقف القارئُ المتحدثُ عند آثار الأقدام التي اكتشفها كروزو فتملكه الخوف، ليقول لنفسه “ربما هذه آثاري”، قبل أن يقارن ليجد حجمها مختلفا، مما يعني أنها أقدام أجنبية.
وأول كيليطو هذا الخوف بأن كروزو “لم يعد مَلِك الجزيرة، ولأنه يعرف أن المتوحشين سيأكلونه إذا التقوا به، وربما كانت تلك آثار قدمَي حي بن يقظان، ربما ترك هذا الأثر…”.
ومع ما تفصح عنه هذه الرواية من رؤية للآخر، وتصور لمركزية الأوروبي المتحضر، رفض المتحدث “الإيديولوجيا في روبنسون كروزو” من الأساس، ثم تساءل عن “كيفية تصحيح روبنسون”.
استحضر عبد الفتاح كيليطو هنا ميشيل تورنيي الذي “غير العنوان، فصار “جمعة” هو البطل، وتغيرت الرؤية، والتركيز”.
هكذا بعد أن يلزم روبنسون جمعةَ “المتوحش” بـ”التأقلم بتعلم الإنجليزية والمسيحية ليصير آخراً”، رست في الرواية بعد 28 سنة سفينةٌ صدفةً، لكن النهاية ستختلف فـ”يرفض روبنسون الذهاب إلى أوروبا وسيرحل جمعة إليها”. يبدو أن هذه النهاية المفتوحة على تأويلات التبادل الحضاري وتشرّب يقين “الآخرين” ونفي مركزية “الحقيقة”، أرضت كيليطو الذي اختتم سردَهُ باستظهارها دون تعليق.