للمائدة بقرتها و سكاكينها و شوكاتها، هي أم الوزارات، و سلطة أقوى من السطات القضائية و التنفيدية و الصحافية، إنها سلطة المعدة، و ما أدراك ما المعدة؟ إذ ا أفرغت و أسبغت فإنها تغمض العيون، وتسدل الجفون، و تفتح الأفواه باللعاب واللعنات و تعطل الوساطة و تشل الخدمات و لا تحقق الأمنيات، و لا تحول البحر برا و لا البر بحرا.
أليست هذه حقيقة يا حفيد المأكولات و لشهوات و الأطباق و القصعات؟
أخيرا أدركت أنه لم يصل بعرق جبينه، و كبر ذهنه، و أنفة أنفه، بإمكانه أن يصل بالمائدة و الولائم و القرابين، فالقريب يصير بعيدا، و البعيد يصير قريبا، و القرد يحول أسدا، و الأسد يحول قردا، قكل الطرق التي تؤدي إلى ملأ الجوف و الحلق تطبيقا للمثل الحكيم:”عمر ليه حلقوا ينسى اللي خلقو”.
المائدة خطة استراتيجية تؤدي إلى الجنة و تنجي من جهنم، أخرج حفيد المأكولات ذاته المتوارية و ضعها أمامه بعصبية.
إلى متى يا ذاتي دابة…تدور كحمار الرحى لسحق الفراغ و البطالة، و فك الكلمات المتقاطعة… في المقاهي و القبور؟!
و بأي حال عدت يا عيد الشغل على ذاتي؟
“ماذا من خماسا بغاو، اطلعوا لرياسا؟”
الفرصة أتت أيتها النفس، إنها تأتي مرة واحدة، عليك أن تمسكي برقبتها و شعرها، و عضي عليها بأنيابك و نواجدك، و إلا عشت كالملك الضليل لاتاج ولا صولجان…لا كرسي متحرك… لا أجرة ثابثة… لا تقاعد و ضمان إجتماعي …إلى متى نعيش أنا و أنت تعيسان محرومان…أنت علي حق، و أنا عليك حق… فابتسم في و جه نفسه بهدوء:
اطمئني أيتها النفس اللوامة…سأعثر على امرأة تلبسني و ألبسها، و تدثرني و أدثرها في الصيف و الشتاء…
و لم يتردد حفيد المائدة من حمل البشري و المفاجأة لذاته:
اعلمي أن مديري أوعدني و الوعد عند المدير مضمون…مأمون…موثوق … بأن أحل مكانه، و أتربع على كرسيه، فدوام الحال من المحال و مديري متيم على الولائم و الموائد، يسافر بمعدته، و لو كانت في مكناس أو مراكش سأدعوه مع رفاقه أصحاب الذوق الرفيع و المفاتيح و لن أدعو الكادحين والمسحوقين…حذاري أيتها الذات أن تبوحي لهم بهذا السر…فجدتي لالة فاطنة كانت فطنة رحمها الله، قالت لي يوما ما : “شكون عدوك صاحبك في الحرفة”.
بدأ حفيد المائدة يتقمص دوره الجديد… المدير الجديد… كيفية الجلوس على الكرسي و ربط ربطة العنق، و الإبتسامة الصارمة الصفراء، و فن الكلام في الأجتماعات، و ترويض البواب و الحراس، فإنهم بمثابة عيون و آذان أخطر من “كاجي بي و لا سي يا” يعرفون من صعد و من نزل، و من سمن، و من هزل ومن تغيب، و من جاء، ومن أصيب رأسه بالحمى أو البرودة… الكلمات بالميزان… التخنزير في عيون أطر السراب و الفراغ، و عدم الجلوس معهم في الأماكن العمومية و الشعبية.
صدع بطريقة لا شعورية أنا المدير الجالس في الصورة أعلاه، و الموقع أسفله…لا صوت يعلو على صوتي سوى سوط المديرالؤسس و الممول، وأصحاب الوقت ة و الأمكنة…المكتب سأزينه باسم طغرائي مذهب، و هاتف على اليمين و هاتف على اليسار و باقة ورود طبيعية كل صباح، و خنجر صغير من العرعار أما رفوف المكتب سأضع فيه مجلدات ضخمة تليق بضخماتي و مقامي و تجلب الأنظار فتنظر إلي بالوقار، و يظنونني من أهل القراء و العرفان…ألست أنا المدير الجديد صاحب التدبير و التسيير و القرار أما السكرتيرة التي غرست في سكاكينها
بجمالها الفتان، و جسمها الممتلئ بالشحم و اللحم والعظام، ووجهها الدائري كالبدر في الليلة الظلماء، و العينان الواسعتان الكحلويتان، و الشفتان الصغيرتان كالثمر الأسمر….
هاهي باسم الله، و باسم المنصب الجديد… ستغير من طريقة تعاملها معي…في حركاتها…همساتها…لمساتها…خطواتها…
سترغب و أتمنع… سأرد لها الصرف القديم…يوم كنت أمرا منسيا لا محل لي في تضاريس جسدها و تجاويف قبلها، فأنشد قول عبد الرحمان المجدوب:
مزين النساء بضحكات
لو كان فيها يدوموا
الحوت يعوم في الماء
و هما بلا ماء يعوموا
حديث النساء يونس
و يعلم الفهامة
يدبروا شركة من الربح
و يحسنوا لك بلا ما
و هكذا قضى حفيد المائدة ليلته داخل حافلة الحلم مسافرا إلى أن أيقظته أمه لالة حليمة، فأدركه و قت العمل و الصباح، فجمع بسرعة جثته و محفظته، و هرول مسرعا إلى محطة حافلات اليقظة و الاكتظاظ.
7-8 يوليوز 2001 – الدارالبيضاء