أما قبل…
في هذه الورقة اليتيمة لا أوظف خطابا شعبويا على الإطلاق، و لا أروج لخطابات عدمية لا ينظر أصحابها إلى الواقع إلا من زاوية محدودة ذات أهداف سياسية تركب على أزمة الغلاء والتضخم،يستعملون في ذلك خطابا ديماغوجيا عاما لا يستند إلى معطيات علمية، أو قواعد اقتصادية… للسيطرة على الرأي العام في استغلال تام لجهل عامة الناس حتى يتسنى لهم تسويق رؤية سوداوية أحادية ملخصها
” بلغ السيل الزبى ” ،والتهديد بالخروج الى الشارع،ما ينتج عنه عواقب وخيمة على الوطن والمواطن. وأعني بذلك الوضعية الدولية والمحيط الإقليمي
و أعداء الوحدة الترابية …
لست ممن يركب الموجة أو يمشي مع التيار و لست ممن يتحين الفرص ليضرب الخصم على القفا و يلطم وجهه
وهو مكتوف اليدين.
ولكن أحسبني من الذين يعطون للخصم منجله ليدافع عن نفسه و الأسرع منا يحصد صاحبه… وهذه العملية أسميها
” ديمقراطية الموت ” هذا مصطلح خاص بي ولا يلزم أحدا في الممارسة النقدية والتربية على النقاش الحضاري ( القتالية ) على شاكلة رعاة البقر ” كوبوي “.
أما بعد…
لا شك أن الرأي العام أصبح يدرك أكثر من وقت مضى أن من يفوز في الانتخابات كيفما كان لونه ومرجعيته يدبر شؤون البلد مقيدا عاجزا عن الحركة بالحرية التي اعتادها في حزبه أو منظمته، ولا يستطيع تنفيذ الوعود التي أطلقها في حملاته الانتخابية إلا ناذرا وفي حدود دائرة ضيقة جدا. مع علمه أنه يلعب دور واقي الصدمات
” بارشوك ”
وعليه أن يتحمل الضربات ويخسر حزبه أيضا جولات ليستمر في طابور التناوب على الكراسي الحكومية
ويعلم أن
” دخول الحمام ليس كالخروج منه ” ..
كما يقول المثل المغربي. وحمام دار المخزن سخون بزاف .
إن السياسيين اعتادوا على الكذب وهم يكذبون
ويستمرون في الكذب حتى يصدقوا أنفسهم أنهم على حق ،وهم يكذبون. سلوك تلقنه المدارس الحزبية التي ينتمون إليها و لا فرق بين القنافد جميعها.
من أجل فهم صحيح للوضع الاجتماعي الصعب الذي أفرزته أزمات مالية واقتصادية ونسبة التضخم المضطرد، علينا أن ندرك جيدا أن الدولة – ليست الحكومة – مرتبطة ارتباطا وثيقا باقتصاد السوق
والعولمة و بمؤسسات مالية دولية كبرى استحوذت على ذهب العالم، متحكمة في السياسات الاقتصادية للدول النامية أو السائرة في طريق النمو ومنها المغرب بسبب الديون لصالح المؤسسات المالية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ناهيك عن سيطرة الشركات الكبرى متعددة الجنسيات على الحياة الاقتصادية و المالية في البلاد…
إذا وقفنا على كل هذه المعطيات و قمنا بدراسة تحليلية للوضع الاجتماعي المتردي لدى فئات عريضة من المواطنين، خاصة الطبقة المتوسطة التي تعد صمام أمان للاقتصاد بحكم أنها المروجة لحركته اليومية، فهمنا جيدا سبب الأزمة و جذورها و تاكدنا أن الاسعار الملتهبة وغلاء المعيشة تحصيل حاصل لاجراءات ووضعيات تتعدى الحكومة ووزراءها.
علما أن ظهور انفراجات بين الفينة والأخرى نتيجة بعض الإجراءات التي يراد منها تنفيس الوضع
وإطالة مرحلة الانتظارية ثم الحديث عن توقعات غالبا ما تكون وهمية لا تحل الأزمة الخانقة، ولا تلبي حاجيات المجتمع الذي انهكته سياسة الاقتصاد المهيكل و تنفيذ تعليمات البنك الدولي …
إنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
ها هي الدكاكين السياسية على المحك حكومة و معارضة
ونقابات، وهاهو المواطن يئن بين المطرقة والسندان تنزل عليه الضربات تلو الأخرى الغلاء والزيادات المتوالية في المواد الاستهلاكية و الضرائب المباشرة وغير المباشرة
والضريبة على الدخل وعلى القيمة المضافة و الغلاء الفاحش للمحروقات
( بنزين كازوال )
ما ينتج عنه غلاء تذاكر السفر
والمنتوجات الغذائية الأساسية
( حبوب و خضر وفواكه وأسماك ولحوم بيضاء وحمراء… ).. إضافة إلى أفواج العاطلين عن العمل و حاملي الشهادات… نزيف تقف الحكومة عاجزة على إيقافه وضخ دماء جديدة في الجسم الآيل للسقوط والسكتة القلبية – لا قدر الله – التي حذر منها الراحل الملك الحسن الثاني في خطاب قبل تسليم حكومة التناوب برئاسة اليوسفي رحمه الله .
وهاهي القنوات والمواقع الالكترونية تعج بالصيحات والآهات التي أحدثتها نار الغلاء ،والتهاب الأسعار في غياب تام لأجوبة موضوعية ،و مقنعة من طرف المسؤول الحكومي أو المسؤول البرلماني، أو خفافيش الظلام الحزبية التي تعشق الخروج ليلا إلى الشواطئ
و الحانات والفنادق الرفيعة لتناقش المكاسب ونصيبها
من الكعكة في الاستحقاقات القادمة و تعبيد الطريق إلى قبة البرلمان أو إلى الجماعات الترابية.
والضفادع النقابية التي تختبئ تحت وحل البركة نهارا
وتنفخ رؤوسنا ليلا بنقيقها المستمر ،فلا استمر النضال، و لا توقف النقيق… كما يقول المثل:
” زيد على حمار الشلح “..
” غا زيد ديك الرحى ما نايضش مانايضش “. فأصبحت الحكومة هي التي تدعو، وهي التي تحضر الملف المطلبي و هي التي تحدد السقف
والمرحلة و زمن التوقيع و البلاغات في غياب تام لشخصية النقابة كفاعل أساسي في إنتاج سياسة حكومية ذات طابع اجتماعي تؤطره نضالات الشغيلة و الجماهير الشعبية.
كيف ستخرج هذه الأحزاب والمنظمات التي تدعي تمثيلية الشعب ،والذي ظل ينتظرها طويلا كي ترافع عنه ،وتضغط بكل الأساليب
الممكنة، الدستورية والديمقراطية للمحافظة على مكتسباته، و من أجل رفع هذه المعاناة عن غالبية المواطنين في المدن والقرى ؟؟ أين الحلول والبدائل التي يجب أن تتبناها أحزاب المعارضة للخروج من الأزمة ؟ لم نسمع شيئا من هذا. أحزاب خاوية على عروشها يتزعمها التافهون والعبثيون والجهلة في الجهات والأقاليم ينتظرون دورهم لنيل رضا الزعيم في وكالة لائحة انتخابية علما أن مقراتها معطلة إلى حين حملة انتخابية.
لا شك أن هذه الكائنات السياسية لا تحضى باحترام السلطة على امتداد رقعة الوطن كل في موقعه وجهته لأن السلطة المتمثلة في وزارة الداخلية وولاتها وعمالها و الباشاوات والقواد على علم كبير بتفاهة هذه الكائنات الحزبية و معرفة عميقة بالفراغ الفكري و الثقافي الذي تعيشه.
إن رجل السلطة اليوم ليس كالأمس. تلقى تكوينا إداريا
وسياسيا عاليا
وتخرج من جامعات المملكة
وتحصل على أعلى الشهادات قبل أن يلتحق بسلك الإدارة الترابية التي مكنته من جميع وسائل المعرفة والتكوين…
وعندما يجد أمامه كائنات من طينة هؤلاء الذين تعرفونهم بأصواتهم المنكرة ( هش مش كش…)
والأمثلة كثيرة تشاهدونها على شاشات
هواتفكم، نجدهم في قبة البرلمان وفي مجالس الجماعات الترابية وغيرها من التمثيليات في منظمات المجتمع المدني . غير قادرين على انجاز دراسة تحليلية لوضعية ما أو اعتماد خطاب سياسي واضح المعالم يطرح البديل و يرافع عن قضايا الساكنة التي انتذبته لتمثيلها بكل جرأة و اقتناع و أنه حاضر بقوة للمساهمة في تقدم المنطقة وتطويرها اجتماعيا وبيئيا ولإيجاد الحلول الممكنة لتنمية الرأس مال البشري في دائرته أو في جهته…
هل يملك رئيس الحكومة ،و فريقه الحكومي، ومن كان قبلهم في الحكومتين السابقتين نفوذا في عالم الرأسمالية العالمية المتوحشة ؟ لا شك أنهم أشبه بالضباع التائهة في غابة القرود التي تعلقت في الأشجار تأكل من ثمارها
والضباع تنتظر سقوطها وهي تنط من شجرة إلى أخرى.
فلا القرد سقط ،ولا الضباع يئست وغادرت الغابة وأدركت أنها لن تفترس قردا ما دامت الأشجار تثمر .
نقاش هادئ على صفيح ساخن أريده في هذه الورقة اليتيمة
– كما أسلفت القول في أولها – مؤكدا في الوقت نفسه أن السيد رئيس الحكومة ليس بالسياسي المحنك الذي يمكن أن يناقشنا على مائدة مستديرة و يدافع عن البرنامج الحكومي الذي تقدم به في حملته الانتخابية. هو رجل أعمال بامتياز صاحب شركات كبرى لا نعلم هل يملك أصولها حقيقة أم وضع في الواجهة من طرف ملاكها الحقيقيين. وقد دفع دفعا في عالم السياسة، و لعله مكره لا بطل في هذه الزفة الحكومية التي تظافرت فيها أزمات مالية دولية وحروب وجفاف ومغرب أخضر حصد اليابس
والأخضر وترك الفلاح الصغير يأكل أظافره
وهو يشاهد أحلامه تبخرت مع كيد الاتحاد الأوروبي والحرب الروسية على أوكرانيا إضافة إلى فاتورة ديون المغرب من المؤسسات المالية الدولية التي تفاقمت مع حكومة بنكيران والعثماني و التي تفرض على الحكومة اتباع سياسة التقويم الهيكلي و إملاءات مجحفة تشل قدرة أصحاب القرار على التحرك نحو الملف الاجتماعي بشكل ايجابي … وهذا ما يراه كل متتبع فاهم للوضع و تفاصيله.
انطلاقا من هذه الوضعية الصعبة نجد أن الحكومة غير قادرة على إيجاد حلول ناجعة في الملفات الكبرى كالصحة والتعليم
والشغل كما عجزت سابقاتها العثماني بنكيران وعباس الفاسي قبلهما، وفي مثل هذا الموقف المحرج حقا لا يجد السياسيون بدا من وضع أيديهم في يد لوبيات المال والاقتصاد و يرضخ لهم في إذلال كبير طمعا في أن يجد مخرجا سياسيا لورطته أمام الناخبين وعموم المواطنين كما فعل بنكيران إبان رئاسته للحكومة وخرج إلينا يصيح دون خجل : “الموظفون مانزيدهمش حتى فرنك ” و زاد في سن التقاعد والاقتطاع من أجرة الموظف
ونقص من نسبة التقاعد النسبي
وطبق قاعدة ثمان سنوات الأخيرة
وخرج بكذبات عن صندوق المقاصة
وكذبة الملف الصحي الرميد الفارغ… و فاز براتب سبعين ألف درهم وسيارة فارهة و… فساق الجمل بما حمل إلى خيمته بعد أدى مهمته بنجاح كما أملاها عليه صندوق النقد الدولي متبعا سياسة التقويم الهيكلي.
ها نحن الآن نحصد نتائج الوهم السياسي و الدجل الذي بدأ منذ 2012 أما غلاء الطماطم و البصل
واللحوم و البطاطس فهي حالة عابرة يسهل التغلب عليها ببواخر عملاقة تأتي من الهند أو باكستان كما يأتينا موز ” كوسطا ريكا ” و ” غواتمالا ” و ينتهى الموضوع بانتعاش زراعة هذه الخضر في الفصول القادمة…
ولعل عشر بواخر من الفوسفاط المغربي كافية لإغراق الأسواق المغربية بشتى أنواع الخضر و اللحوم.
في انتظار وصول الفكرة إلى السيد رئيس الحكومة
و تنفيذها على وجه السرعة لاستقبال شهر رمضان الكريم دون خصاص في هذه المواد الأساسية لدى المواطن المغربي الذي يستحق منا توفير العيش الرغيد
و الشغل المناسب
و السكن اللائق و ما يخفف من المعاناة اليومية في ظل وضع دولي متأزم وحروب بدأت وأخرى تدق طبولها حوالينا. في انتظار كل هذا نعيش على أمل لا ينقطع أبدا.
* الأستاذ والشاعر والاعلامي :أبو فراس جابر الصنهاجي