آخر القنص طلقة أخيرة ..تنبعث من”وردة في الليل” لمحمد لفتح

Mohamed aithammou4 أكتوبر 2022
Mohamed aithammou
ثقافة وفنون

p18 20080809 pic1 - الحقيقة Alhakika

رأى محمد لفتح النورَ ذات يوم من سنة 1946 في مدينة سطات. هنا، في هذه المدينة المنسية على ضفاف الحلم، تعلَّم الحروف والأرقام الأولى، وأبجديات الحياة، لينتقل إلى مدينة الدار البيضاء، ومنها إلى باريس لمتابعة دراسته في الهندسة بمدرسة الأشغال العمومية سنة 1968 في ذروة الثورة الطلابية. لكن دراسة الهندسة لم ترق له، فتركها واتجه لدراسة المعلوميات. بعد عودته إلى أرض الوطن سيعمل في مجال المعلوميات لفترة قصيرة، ثم سيلتحق بالصحافة الثقافية، في المغرب في البداية، ثم في مصر فيما بعد حيث وافته المنية سنة 2008.

دشَّن حياته الأدبية برواية “آنسات نوميديا” التي صدرت له سنة 1992 عن دار النشر الفرنسية “لوب”، والتي سيُعاد نشرها سنة 2006 من طرف دار” لاديفيرونس”، لتتوالى بعدها أعماله: “في سعادة الجحيم” و”عنبر أو تحولات الحب”، ثم مجموعة قصصية بعنوان “وردة في الليل”، متبوعة بـ “تحت الشمس وضوء القمر”، ثم “طفل الرخام” والمجموعة القصصية” شهيد من زمننا” ورواية “يوم ڨينوس” ويوميات تحت عنوان “سقوط دائم”، ثم بعدها ثلاث روايات هي على التوالي: “حواء” و”حكايات العالم العائم” و”المعركة الأخيرة للكابتن نعمت”. وقد صدرت له أخيرا عن دار فاصلة/ طنجة-المغرب، وبدعم من أكاديمية المملكة المغربية، مجموعة من الأعمال التي لم يسبق أن نُشرت من قبل.

ويَعتبِر محمد لفتح نفسه “كاتبَ حدودٍ”؛ لأنه عاش في مُفترق ثلاثة فضاءات هي: المغرب وفرنسا ومصر، وقد مكَّنه هذا الوضع من تمثل الاختلاف، والاستفادة من تنوع الثقافات وغناها. لهذا نجده ينهل، في أعماله، من مرجعيات مختلفة ومتنوعة؛ إذ يحضر ابن عربي إلى جانب رامبو وبودلير وأبي نواس وبورخيس وغيرهم كثر. إنه الاختلاف الذي يؤدي إلى التآخي والحوار لا إلى التنابذ والفرقة.

إنه محمد لفتح ناسكٌ، متعبدٌ في محرابه، صوفيٌّ من زمن آخر أو من زمن قادم، خجول، رافض للمواضعات الاجتماعية. إنه يعيش زمنه. فلتةُ التاريخ والجغرافيا. عاش عالمه الخاص وحَملَه إلى رواياته. تحدث عن الهامش، عن المشردين والمتسكعين، عن مآسي آخر الليل، عن هذا العالم الآسن والفضاءات الموبوءة، وحوَّل بشاعتها إلى أجواء شاعرية تسمو بالكائن إلى مدارج الطهر والصفاء.

نص القصة

آخر القنص طلقة أخيرة

أذكر في طفولتي أنَّ سكان مدينة سطات لم يكونوا، أثناء فصل الصيف، ينتظرون فقط بلهفة الحريقَ الموسميَّ الذي يكسر رتابة الأيام، والذي اعتادوا على اندلاعه طيلة يوم كامل في “النْوايَل”(أكواخ من القش) المترامية على تل يقع على أطراف المدينة، بل كانوا يترقبون، أيضا، حدثا آخر أكثر عنفا وإثارة. إنه حدث افتتاح موسمِ قنصٍ جدِّ مميَّزٍ، موسمٍ بكامله وليس يوما واحدا فقط. في عز الصيف، كانت الكلاب، الجائعة والوفية لموعدها مثل الحريق، تَفر من الدواوير المجاورة التي ضربها الجفاف، وتبدأ بالتسلل إلى المدينة فرادى في البداية أو في أزواج وعصابات صغيرة حتى لا تثير الانتباه. ولكنها في النهاية تنزل في جحافل حقيقية منظمة، تزرع الرعب في طريقها. ولِحسن الحظ، فقد قام مُنقذٌ في تلك اللحظة المروعة بالتصدي لغزو الكلاب هذا. إنه عميد مخفر الشرطة الملقبُ بالكبران (العريف) لأنه قاتَل في صفوف الجيش الفرنسي الذي غادره حاملا هذه الرتبة والعديد من الأوسمة والميداليات.

لقد كان هذا المحارب المخضرم مهيبُ الجانب، يَقبل على نفسه أن يَحمل على كتفه بندقيته من جديد ويَتحول، طيلةَ يوم واحد، إلى قناصِ كلابٍ لأجل راحة أبناء مدينته. كان يُعلِنُ عن اليوم الذي اختاره للقيام بمهمته، حيث يتكفل “البراحون” (المُنادون) بإِشاعة الخبر السار في كل أرجاء المدينة، داعين السكان إلى أداء واجبهم الوطني بالمشاركة في المطاردة. وقد كان الأطفال أولَ من يستجيب لهذا النداء، حيث تُسرِّحهم المدارس في هذا اليوم المشهود. لم يكن يغمض لهم جفن طوال الليل، وبمجرد بزوغ شمس اليوم الموالي، يهرعون إلى مخفر الشرطة مكانِ تجمع المطاردين. كانوا يشاهدون، على حافة الرصيف، شاحنة ألِفوا رؤيتها في مدينتهم، غير أنها ستؤدي اليوم مهمة مختلفة تماما. وصل فيما بعد شرطيان شابان. سيقود أحدهما الشاحنة، في حين سيساعد الآخر القناص في عمله النبيل. ولأجل ذلك، فقد استبدل زيه الرسمي ببلوزة زرقاء فضفاضة وطويلة يحزمها حول وسطه، جعلته يبدو على هيئة صبي جزار. أخيرا، ظهر رجلُ المهمة الصعبة من فوق درج مركز الشرطة، وقد علَّق البندقية على كتفه، واستبدل زي الشرطة الخاص به بزي الجيش الذي عمِل بين صفوفه، ووشَّح نفسه بالميداليات والأوسمة التي حصل عليها، والتي كانت تتوهج ببريقها على صدره. نظر إلى السماء المشرقة وهز رأسه مبتهجا. كان اليوم يبشر بأنه سيكون يوما رائعا، لكن ليس بالنسبة إلى الأوغاد الذين لن يشهدوا غروب شمسه. أخيرا نزل الدرج وصرخ مثلما يصرخ عريف في كتيبته: “هيا بنا يا أطفال إلى الحرب! انتظموا، كما في الحرب، في فرق بحسب أحيائكم! وطارِدوا العدو باتجاهي!”.

أخذ مكانه بجانب السائق، وضع البندقية التي خاض بها الحرب بين رجليه. قفز صبي الجزار إلى الخلف وبدأت الشاحنة تجوب المدينة ببطء، والسائق يوقِفها كلما لمح في الأفق هروب كلب مذعور أو حشدا من الكلاب بفعل صرخات الأطفال المطاردين ورشقهم لهم بالحجارة في ابتهاج وسرور. ترجل العريف من السيارة بخفة ورشاقة لا تتناسبان وَعُمره. وضع إحدى ركبتيه على الأرض، وصوَّب بندقيته نحو حشد الكلاب الفارَّة من شدة الذعر. كانت الطلقات النارية تُجلجل مثل ألعاب نارية، وفجأة تناثرت على الرصيف جثث ممزقة، وخمدت حركاتها وتوقفت ارتعاشاتها بالتأكيد. هكذا، بين برك من الدم، حيث تسبح أحشاء من الجثث الممزقة، وبين الشاحنة المتوقِّفة التي فُتِح بابُها الخلفي، طفق المساعد الشاب يسير جيئة وذهابا، وينقل، باستعماله مجرفة وخطافا، جثثَ الكلاب التي تراكمت طوال اليوم، ويكدسها في الجزء الخلفي للشاحنة. في كل مرة، كان السائق ينزل ليبدي إعجابه بالمجزرة التي نذر العريف نفسه للقيام بها، متوجها إليه بالقول كلما توقفت الشاحنة:

-حسنا كابران! يمكننا القول إنك قناص بارع.

خلع القناص قبعته، وبدت صلعته الحمراء تتلألأ تحت أشعة الشمس، صلعةٌ ملساء تتصبب عرقا، ليست أكبر من حبة بطيخ. ولم ينفك يذكّر الشاب للمرة الألف بمقولته:

– إنني لم أُشارِك في حرب الهند الصينية، ولم أُمنَح رتبة عريف هباء.

كانت لكنةُ القروي الأمي الخشنةُ، التي ظلت تحتل لديه مكانة أثيرة، تقتل الكلمات من خلال طريقة نطقه بها. لقد كان يُدرك بالفعل الجانب المهِين في هذه المطاردة التي استمرت ليوم كامل، لكنه كان يُمَنِّي النفسَ بأنها ستكون في مصلحته في القريب العاجل. ذلك أن استقلال البلاد كان يلوح في الأفق، ولم تكن تفصلنا عنه سوى بضعة شهور. سيطرحون عليه أسئلة حول أنشطته خلال حقبة الاستعمار، فيجيب آنذاك بأنه كان يقوم بأعمال جليلة للصالح العام بتخليصه المدينةَ كلَّ صيف من الكلاب الجائعة التي كانت تغزوها وتزرع الرعب في أرجائها. لكن المحارب العجوز لم يكن لديه أدنى شك، إذ كان يعلم بأنه لن يفلت بهذه السهولة. كان متيقنا بأنهم سيسألونه، بالطبع، عما كان يفعله خلال ما تبقى من أيام السنة، باستثناء هذا اليوم الذي كان يكرس فيه نفسه لخدمة الصالح العام. كان ما يزال ثمة شهود أحياء كان قد استنطقهم هو بنفسه في قبو مخفر الشرطة. ثم جف حلقه من شدة التوتر، فأمر السائقَ بصوت غاضب:

-هيا! ناولني الماء!

بعد أن أرخى برأسه إلى الوراء، اشرأب برقبته عالياً ليستقبل دفقة الماء المنعشة، وبعد أن ارتوى، صرخ في الأطفال بالصوت الغاضب نفسه:

– هيا! لنعد إلى المطاردة! وأرسلوا باتجاهي كل هؤلاء الأوغاد من الكلاب الجراب!

كان هذا القناص الشيخ يقتفي بنظرة شزراء أثرَ ركضِ الأطفال المبتهجِ. لقد كانت الحياة كلها أمامهم، ولن يحاسبهم أيٌّ كان. وبالنسبة إليه، كان يرى أن الأمر غير منصف. لقد كان هو الآخر، مثل جميع الناس، طفلا مرتاح البال، بريئا، طائشا مثلهم. إنها المرة الأولى في حياته التي فكر فيها بمرارة بأن طفولته وشبابه قد سُلبا منه، وبأنه قد ضل الطريق، وتخلى عن إخوانه في الوطن، لكن هل كان ذلك حقا خطأه؟ يمكنه أن يلتمس لنفسه عذرا في حياة البؤس التي كان يعيشها والداه الفلاحان اللذان لم يكونا يملكان أرضا، وفي الظروف التي دفعته إلى العمل جنديا مع المستعمِرين، ثم شرطيا فيما بعد. لكن ما الظروف القاهرة التي يمكن أن يتذرع بها ليُعلل سبب ممارسته أيضا مهنة جلادٍ قذرٍ؟

كان متيقنا من أن ذلك اليوم يدنو، عندما سيقتحم رجالٌ منزلَه فجأة، وعيونهم تشع منها القسوة، وسيأمرونه بارتداء زي الشرطة الخاص به، وبوضع ميدالياته وأوسمته على صدره النحيف. وسيقودونه، مرتديا هذا الزي الذي كان بالنسبة إليهم زيَّ عارٍ، إلى فناء السجن، أو إلى مكان أسوأ منه، إلى طابقِ مخفر الشرطة السفلي الكئيب الذي كان قد عذَّب بعضهم فيه بلا شفقة. وستدفعه أياد قوية وصلبة، بلا رحمة، إلى الحائط. وسيقوم هذا الذي اختاره رفاقه بأن يَقتَص لهم بالبصق على الأرض في المكان الذي سيسقط فيه جسده بعد لحظات قليلة. وقبل أي شيء، سينهره بالتلفظ في وجهه بكلمة واحدة فقط، ربما تكون الكلمة الأخيرة التي سيسمعها في حياته: كلب!

خلع الصياد قبعته وتجرد من زيه العسكري وألقى بهما على المقعد الأمامي. كان السائق قد ناوله قارورة الماء، لكنه تبرم بعصبية وكأنه يتحاشى ذبابة مزعجة. رفع نظره إلى السماء، حيث رأى الشمس قد شرعت خِفية في شق المسير الذي سيفضي بها إلى التخلي عن مكانها للغروب ثم لليل فيما بعد. استغرق في حلم يقظة مرير جعله لم ينتبه لمساعِده الذي كان يُخبره بدنو كلبين أو ثلاثة كلاب، ربما تكون آخر الكلاب في هذا اليوم. ولم يتنبَّه إلى ذلك إلا عندما أصبح الكلب الذي تخلف عن الآخرين في مرمى بندقيته، وقد كان يركض ببطء لأنه كان مصابا في قدمه. لكنه لم يصوِّب بندقيته نحوه أمام دهشة مساعده والسائق. كانا مذهولين حينما رأياه يرفع سلاحه ببطء ويصوبه نحو صدغه ثم يلقي برأسه إلى الخلف كما فعل مرات عدة خلال النهار حينما كان يريد إرواء عطشه. كانت الحركة مشابِهة إلى درجة جعلتهما يترددان للحظة.

وعندما أدركا أخيرا ما كان قد عقَد العزم على فعله، اندفعا نحوه لنزع البندقية من بين يديه، لكن الأوان كان قد فات. كانت الطلقةُ قد خرجت، وكان القناص قد وقَع بِكل طوله على الرصيف. انحنى المساعِد على آخر جثة سقطت في هذا اليوم، ولفَّها في بلوزة الجزار التي كان قد خلعها، وحمله بين ذراعيه، ومشى دون أن يُفكر باتجاه مؤخرة الشاحنة من فرط التوجه إليها طوال اليوم، حيث تتكدس جثثُ الكلاب المقتولةُ. قام بمساعدة من زميله، وقد أصابه الذهول من هول الخطأ الذي وقع فيه، بِحشر جسده والجسد الهامد في المقعد الأمامي، والدموع تكاد تنهمر من عينيه.

– كلبةٌ هي الحياةُ !

على الرغم من صدمته، أومأ السائق برأسه مؤكدا كلام زميله، فتح النافذة، وبصق، ثم أدار محرك الشاحنة المتهالكة.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة